Selim Mawad
Published in An-Nahar August 15, 2019. Click here.
... لا يا حبيبي... لا يا حفارين قبرشمون
سليم معوض
لمقدمة هذه المقالة تاريخ، فهي ليست بالمرة الأولى التي أبدأ فيها بالكتابة لأجد نفسي ممتنعاً عن اتمامها أمام تعليق الزملاء والأصحاب تحت حجة: "شو باك دايماً بدك تنبش القبور؟". وهكذا كانت تنتهي المحاولة منذ أكثر من عشر سنوات. لكن ليس هذه المرة. فالموضوع ليس له مدة صلاحية في بلد مثل لبنان. الحرب، الماضي، العدالة الانتقالية، الحاضر والذاكرة وما بينهم من سياسيين متلاعبين بمثل هذه المفاهيم، فلم ولن يتمكنوا من فهمها لأسباب عدة وأهمها أن البعض جزء من المعضلة. فمنهم المرتكب، وليس أقلهم الوريث. أما السبب الكامن وراء المحاولات الأولى لكتابة هكذا مقالة، كان ولم يزل، محاولة التلاعب بذاكرة الحرب الأهلية من قبل البعض الهادفة للتجييش الطائفي بغية الوصول إلى سدّة الزعامة من خلال الاستعظام وتظهير الجماعة بصورة المستضعف
زار رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل منطقة الجبل في الثلاثين من حزيران 2019، أدلى بجملة تصريحات واسترجع - على عادته - الماضي وأحداثه العنيفة التي لم تُعالج بطريقة علمية. بدأ حديثه بلهجة استفزازية مستعملاً عبارة "لا يا حبيبي…". استفِز البعض من استرجاع ذاكرة تلك الأحداث فوقع المحظور ووقع معه قتيلان في البساتين-قبرشمون. ما زال التحقيق المتعسر سارياً، وما علينا سوى الانتظار!
لكن كيف لنا تحليل هذه الظاهرة؟
الذاكرة، الهوية السياسية والمطابقة الاجتماعية
يشدد علم النفس الاجتماعي وعلم المجتمع أن الذاكرة ليست بفعل فردي، بل هي عملية متصلة بالتفاعل الاجتماعي وخاضعة لحيثياته وضغوطاته. ومن الانطباعات السائدة في لبنان خضوع المواطن لتلاعب النخب السياسية بمصيره ومفاصل حياته العامة والخاصة، الماضية والحاضرة، وحتى المستقبلية. لكن الاستثناء وارد، حيث تنقلب الآية لنشهد إمكانية تلاعب المواطن والجماعة بالنخب السياسية والتأثير عليها. ويمكن فهم ذلك من خلال مفهوم "المطابقة الاجتماعيةSocial Conformity " في علم النفس الاجتماعي وهي نوع من التأثير الاجتماعي الذي ينطوي على تغيير في المعتقد أو السلوك من أجل التوافق مع المجموعة.
والتطابق هذا نوعان، "خاصPrivate Conformity " ملتصق "بالفرد" و"عامPublic Conformity " ملتصق "بالجماعة". تنسحب "المطابقة الاجتماعية" على الكثير من مفاصل الديناميكيات المجتمعية اللصيقة بالفرد والجماعة ومنها الذاكرة. يحدث "التطابق الخاص" عندما تتوافق ذاكرة الفرد مع تلك الخاصة بالمجموعة التي تؤكد وتعزز ذاكرته وتثبت أحقيتها وصوابها. أما "التطابق العام" فهو نتيجة الاختلاف حول تفاصيل وحيثيات الذاكرة بين المجموعة والفرد ليجد هذا الأخير نفسه مجبراً على تبني ذاكرة المجموعة ليتم ذلك تحت الضغط المجتمعي أو لأهداف محض شخصية من قبل الفرد. وبالتالي يكون للمجموعة تأثيرًا سلبيًا أو إيجابيًا على مسار الذاكرة. ويكون التأثير إيجابيًا إذا طالبت المجموعة بالحقيقة العلمية وأعادت النظر بذاكرتها لتحولها من انطباعات خاصة إلى حقيقة علمية وعامة. وهذه من أهم أسس التعاطي مع الماضي العنيف والانتقال نحو السلم المستدام والتي لم يتمكن المجتمع اللبناني من تحقيقها بعد أكثر من ثلاث عقود على انتهاء الحرب. أما التأثير السلبي، وهو الحالة الشائعة في لبنان، فيتمثل بتبني المجموعة لذاكرة خاصة بها، وأحادية مفصلة على مقاسها، وتهدف لصون مصالحها بغض النظر عن الحقيقة العلمية.
عند الكلام عن ذاكرة الماضي العنيف في فترة ما بعد النزاع، وعندما يكون الفرد هو الزعيم وحامي المجموعة، يتحول أي استحضار للذاكرة اللصيقة بأحداث الماضي من قبل هذا الفرد إلى مسؤولية، إن لم تحتكم لعاقل أدت لزعزعة الأمن المجتمعي.
بالعودة إلى الوضع اللبناني وخصوصية نسيجه المجتمعي، فالصورة تصبح أكثر تعقيداً وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعالجة الهشة للماضي في فترة ما بعد الحرب والذاكرة الاستنسابية الخاصة بكل مجموعة. أمام هكذا واقع، ما على "الزعيم الفرد" سوى التطابق مع المجموعة كي يتمكن من الحكم وتكريس نفسه بصفة "حامي ومخلص شعبه". فكيف لنا عدم تحميل المواطنين، على مختلف انتماءاتهم، جزءًا من مسؤولية ما نشهده من عنف ناجم عن التلاعب بالذاكرة؟
هذه حال الوزير جبران باسيل كسواه من السياسيين الذين فشلوا في فهم صعوبة معالجة زمن ما بعد النزاع وما يترتب عليه من مصالحات أقل ما يقال فيها الاستحالة او الهشاشة كما هي حال مصالحات الجبل القابلة للانهيار عند أي طارء. لكنه يبقى مع الكثير من مستشاريه ومناصريه وحتى خصومهم، ودون أي إدراك، ضحية الماضي غير المعالج. فليس من السهل على الزعيم المرتكب الإقرار بأخطائه وبعدم دقة ذاكرة جماعته ومن الأصعب على الوريث المتزعم التخلي عن ما تتشبث به جماعته كذاكرة خاصة. فكم كان عمر الوزير باسيل عند وقوع أحداث سوق الغرب أو السادس من شباط 1984 أو حادثة الأول من حزيران 1987؟ وكيف للوزير باسيل أن يقدم نفسه مرجعية لتوصيف الماضي وذاكرته استنسابياً وهو الذي لم يتمم السابعة عشرة من عمره يوم انتهاء الحرب اللبنانية؟ وكيف له أن يتلاعب بالصدمة النفسية الاجتماعية الناجمة عن الحرب الأهلية التي ألمت بالجماعة التي يسعى لتزعمها، أو سواها، تحت شعار حمايتها من الآخر واسترداد حقوقها؟ أم أن المواطن قد انتصر، ولو لمرة، على نخبه السياسية ونصب الشرك لهم ولنفسه؟
الحدث الصادم، الذاكرة والهوية السياسية
في مجتمع لم يتمكن من معالجة ذيول الحرب الأهلية وتبعاتها في زمن السلم، يتحوّل الماضي إلى حاضر بدل أن يصبح تاريخًا. يحاول مستحضر هذا الماضي/الحاضر بناء هوية سياسية فردية وجماعية من خلال التنصيب الشخصي Self-Designation ، لتزعم جماعة معينة وفرض سيطرته على الآخرين. فبناء الهوية السياسية يمكن أن يرتكز على عوامل عدة منها الحدث الصادم الناجم عن النزاعات والحروب والذاكرة اللصيقة به.
يعرّف الطب النفسي الحدث الصادم بالحدث الذي يتعرض فيه الشخص أو الجماعة، أو عندما يشهد الشخص على تعرض شخص آخر أو جماعة قريبة منه تجربة الموت الحقيقي أو التهديد بالموت أو الإصابة الخطيرة أو العنف. هذا الحدث يمكن أن يكون من صنع الطبيعة أو من صنع الإنسان وقد يولّد ما هو متعارف عليه "بالصدمة النفسية الاجتماعية ". ومما لا شك فيه أن المجتمع اللبناني، بمعظم سياسييه من الجيل القديم ومواطنيه، ما زال يعاني من ارتدادات الصدمة النفسية الاجتماعية، وبنسب متفاوتة، والتي لم ينجح أحد في معالجتها حتى يومنا هذا. فهل يشكل الوزير جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، أي استثناء لهذه الحالة المرضية المستمرة من دون علاج؟ وهل تعرض لحدث صادم نتيجة الحرب كان قد هدد حياته بالموت؟ أم أنه ورث الصدمة النفسية، وبطريقة سردية، عن غيره من قياديي التيار الوطني الحر أو الجماعة التي يحاول تزعمها؟ إن لم يكن قد تعرض الوزير باسيل لحدث صادم نتيجة الحرب الأهلية، فهو إذا يتلاعب بمشاعر الخوف لدى الجماعة التي لم تخضع لمسار معالجة الصدمة النفسية الاجتماعية الناجمة عن هذه الحرب. كما ويمكن أن يكون الوزير باسيل، وتبعاً لمفهوم "المطابقة الاجتماعية العامة"، ضحية التأثيرات المجتمعية الممارسة عليه من قبل جماعته الساعية وراء حماية من خطر الأخرى. في كلا الحالتين هناك ضرورة للمعالجة من الصدمة النفسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون قد ألمت بالمجموعة أو الفرد الزعيم عليها ومن خلالها، والساعي لفرض زعامته على المجموعات الأخرى.
فهل كان للوزير جبران باسيل القدرة على التزعم لو لم تكن مجموعته مصابة بصدمة نفسية اجتماعية، غير معالجة، نتيجة الحرب والخوف من الآخر، تسعى وراء من يحميها؟ وهل كان لغيره من السياسيين القدرة على بناء هوية سياسية حديثة ومنفصلة عن مفاعيل الحرب، في بلد انتظامه السياسي والمجتمعي والاقتصادي مبني على الفساد والزبائنية السياسية، واستحالة إحقاق الحق دون اللجوء الى تلك النخب السياسية الخائبة؟
من هنا أهمية معالجة الماضي العنيف حتى ولو بعد وقت طويل من وقوع الأحداث الصادمة واللصيقة بالحرب. فمعظم سياسيو لبنان صنعوا زعاماتهم أو حافظوا عليها أو استحدثوها من خلال التلاعب بالصدمة النفسية الاجتماعية التي أصيبت بها مختلف الفئات اللبنانية في فترة الحرب الاهلية. في فترة ما بعد النزاع، وعند انتفاء المعالجة الحقيقية لأحداث الماضي تتحول الذاكرة الخاصة بالحرب لوسيلة تلاعب تضمن السيطرة على المجموعة من قبل "أمير الحرب" أو "الوريث" تحت شعار حماية الحقوق المسلوبة.
متلاعِب، متلاعَب به أم ضحية؟
تحدد بعض من مراجع علم الاجتماع والنفس الذاكرة بمعرفة من الماضي، وليس بالضرورة معرفة الماضي. فإن أي استحضار لأي حدث من الماضي العنيف، من خلال فترة الحرب وفي مجتمع منقسم لم يتمكن من إتمام مصالحات حقيقية بين مختلف فئاته السياسية والطائفية، قد يعتبر تلاعب بالذاكرة من الممكن أن يهدد السلم الأهلي الهش. والدليل يبقى حادثة البساتين-قبرشمون وما سبقها من استحضار لأحداث من الحرب الاهلية من قبل سياسي يبحث عن زعامة وتثبيت وجود.
إن التاريخ موضوعي وعلمي، أما الذاكرة فهي شخصية وغير موضوعية. لبنان لم يتمكن من كتابة تاريخه الحديث منذ فترة الحرب الأهلية لأسباب عدة أهمها عدم الإجماع حول مسببات النزاع والمسؤوليات المختلفة والواقعة على عاتق كل من شارك في الحرب من زعماء طوائف أو أصحاب الايديولوجيات المتضاربة. وبالتالي، فإن أي استحضار لأحداث عنيفة من الماضي يبقى في إطار الذاكرة الخاصة، الشخصية وغير الموضوعية، في حال لم يتم التعاطي مع مسببات ونتائج الحدث بطريقة موضوعية وعلمية. يكثر الكلام عن الحقيقة ولكن يغيب عن ذهن الكثيرين أن الحقيقة ليست قيمة نسبية، بل يجب أن تكون علمية ومثبتة ببراهين حسّية لكي تقطع الشك باليقين. وبالتالي، فإن أي كلام عن حقيقة ما حدث خلال الحرب، دون قرائن وتحقيق جنائي، يبقى في إطار سردي للوقائع ومحض شخصي خاص بجماعة معينة يقابله كلام مناقض خاص بجماعة أخرى. إن ما يزيد الأمر تعقيدًا في لبنان مرتبط بطبيعة النزاع خلال الحرب حيث أن الجماعة الواحدة انقسمت على نفسها وأصبح لكل منها حقيقة خاصة شخصية غير متقبلة للحقيقة السردية الخاصة بالجماعة الأخرى. وأصبح لها أكثر من زعيم يتنافس للإبقاء على مصالحه الشخصية بذريعة حماية أبناء جماعته.
الحقيقة والحذاء
يقول الكاتب والفكاهي الساخر مارك توين: "يمكن أن تسافر الكذبة لتدور حول منتصف العالم بينما الحقيقة ما برحت ترتدي حذائها". فكم نحن بعدين في لبنان عن تلك الحقيقة العلمية الخاصة بأحداث الماضي العنيفة؟ وكيف لنخب سياسية التباهي بحماية المجتمع من خطر العودة إلى الحرب وهي التي لم تتمكن من إطلاق مسار جدي للتحقيق في قضية قبرشمون بعد أسابيع من وقوع الجريمة؟ أم علينا انتظار الحقيقة الجنائية كي تنتهي من انتعال حذائها وعندها تكون معظم القبور قد حفرت؟
لا يا حبيبي... لا يا حفارين القبور... وليتنبه كل من أراد استحضار ذكريات الحرب بطريقة مجانية كم هو متلاعِب أو متلاعَب به. أما أن يكون الزعيم ضحية انتخبت دون الخضوع لعلاج نفسي من مجموعة مصدومة، فهذا ضرب من الهبل المجتمعي "وكَـمَـا تَـكُـونُـوا يُـولَّـى عَـلَـيْـكُـم."
سليم معوض
لمقدمة هذه المقالة تاريخ، فهي ليست بالمرة الأولى التي أبدأ فيها بالكتابة لأجد نفسي ممتنعاً عن اتمامها أمام تعليق الزملاء والأصحاب تحت حجة: "شو باك دايماً بدك تنبش القبور؟". وهكذا كانت تنتهي المحاولة منذ أكثر من عشر سنوات. لكن ليس هذه المرة. فالموضوع ليس له مدة صلاحية في بلد مثل لبنان. الحرب، الماضي، العدالة الانتقالية، الحاضر والذاكرة وما بينهم من سياسيين متلاعبين بمثل هذه المفاهيم، فلم ولن يتمكنوا من فهمها لأسباب عدة وأهمها أن البعض جزء من المعضلة. فمنهم المرتكب، وليس أقلهم الوريث. أما السبب الكامن وراء المحاولات الأولى لكتابة هكذا مقالة، كان ولم يزل، محاولة التلاعب بذاكرة الحرب الأهلية من قبل البعض الهادفة للتجييش الطائفي بغية الوصول إلى سدّة الزعامة من خلال الاستعظام وتظهير الجماعة بصورة المستضعف
زار رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل منطقة الجبل في الثلاثين من حزيران 2019، أدلى بجملة تصريحات واسترجع - على عادته - الماضي وأحداثه العنيفة التي لم تُعالج بطريقة علمية. بدأ حديثه بلهجة استفزازية مستعملاً عبارة "لا يا حبيبي…". استفِز البعض من استرجاع ذاكرة تلك الأحداث فوقع المحظور ووقع معه قتيلان في البساتين-قبرشمون. ما زال التحقيق المتعسر سارياً، وما علينا سوى الانتظار!
لكن كيف لنا تحليل هذه الظاهرة؟
الذاكرة، الهوية السياسية والمطابقة الاجتماعية
يشدد علم النفس الاجتماعي وعلم المجتمع أن الذاكرة ليست بفعل فردي، بل هي عملية متصلة بالتفاعل الاجتماعي وخاضعة لحيثياته وضغوطاته. ومن الانطباعات السائدة في لبنان خضوع المواطن لتلاعب النخب السياسية بمصيره ومفاصل حياته العامة والخاصة، الماضية والحاضرة، وحتى المستقبلية. لكن الاستثناء وارد، حيث تنقلب الآية لنشهد إمكانية تلاعب المواطن والجماعة بالنخب السياسية والتأثير عليها. ويمكن فهم ذلك من خلال مفهوم "المطابقة الاجتماعيةSocial Conformity " في علم النفس الاجتماعي وهي نوع من التأثير الاجتماعي الذي ينطوي على تغيير في المعتقد أو السلوك من أجل التوافق مع المجموعة.
والتطابق هذا نوعان، "خاصPrivate Conformity " ملتصق "بالفرد" و"عامPublic Conformity " ملتصق "بالجماعة". تنسحب "المطابقة الاجتماعية" على الكثير من مفاصل الديناميكيات المجتمعية اللصيقة بالفرد والجماعة ومنها الذاكرة. يحدث "التطابق الخاص" عندما تتوافق ذاكرة الفرد مع تلك الخاصة بالمجموعة التي تؤكد وتعزز ذاكرته وتثبت أحقيتها وصوابها. أما "التطابق العام" فهو نتيجة الاختلاف حول تفاصيل وحيثيات الذاكرة بين المجموعة والفرد ليجد هذا الأخير نفسه مجبراً على تبني ذاكرة المجموعة ليتم ذلك تحت الضغط المجتمعي أو لأهداف محض شخصية من قبل الفرد. وبالتالي يكون للمجموعة تأثيرًا سلبيًا أو إيجابيًا على مسار الذاكرة. ويكون التأثير إيجابيًا إذا طالبت المجموعة بالحقيقة العلمية وأعادت النظر بذاكرتها لتحولها من انطباعات خاصة إلى حقيقة علمية وعامة. وهذه من أهم أسس التعاطي مع الماضي العنيف والانتقال نحو السلم المستدام والتي لم يتمكن المجتمع اللبناني من تحقيقها بعد أكثر من ثلاث عقود على انتهاء الحرب. أما التأثير السلبي، وهو الحالة الشائعة في لبنان، فيتمثل بتبني المجموعة لذاكرة خاصة بها، وأحادية مفصلة على مقاسها، وتهدف لصون مصالحها بغض النظر عن الحقيقة العلمية.
عند الكلام عن ذاكرة الماضي العنيف في فترة ما بعد النزاع، وعندما يكون الفرد هو الزعيم وحامي المجموعة، يتحول أي استحضار للذاكرة اللصيقة بأحداث الماضي من قبل هذا الفرد إلى مسؤولية، إن لم تحتكم لعاقل أدت لزعزعة الأمن المجتمعي.
بالعودة إلى الوضع اللبناني وخصوصية نسيجه المجتمعي، فالصورة تصبح أكثر تعقيداً وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعالجة الهشة للماضي في فترة ما بعد الحرب والذاكرة الاستنسابية الخاصة بكل مجموعة. أمام هكذا واقع، ما على "الزعيم الفرد" سوى التطابق مع المجموعة كي يتمكن من الحكم وتكريس نفسه بصفة "حامي ومخلص شعبه". فكيف لنا عدم تحميل المواطنين، على مختلف انتماءاتهم، جزءًا من مسؤولية ما نشهده من عنف ناجم عن التلاعب بالذاكرة؟
هذه حال الوزير جبران باسيل كسواه من السياسيين الذين فشلوا في فهم صعوبة معالجة زمن ما بعد النزاع وما يترتب عليه من مصالحات أقل ما يقال فيها الاستحالة او الهشاشة كما هي حال مصالحات الجبل القابلة للانهيار عند أي طارء. لكنه يبقى مع الكثير من مستشاريه ومناصريه وحتى خصومهم، ودون أي إدراك، ضحية الماضي غير المعالج. فليس من السهل على الزعيم المرتكب الإقرار بأخطائه وبعدم دقة ذاكرة جماعته ومن الأصعب على الوريث المتزعم التخلي عن ما تتشبث به جماعته كذاكرة خاصة. فكم كان عمر الوزير باسيل عند وقوع أحداث سوق الغرب أو السادس من شباط 1984 أو حادثة الأول من حزيران 1987؟ وكيف للوزير باسيل أن يقدم نفسه مرجعية لتوصيف الماضي وذاكرته استنسابياً وهو الذي لم يتمم السابعة عشرة من عمره يوم انتهاء الحرب اللبنانية؟ وكيف له أن يتلاعب بالصدمة النفسية الاجتماعية الناجمة عن الحرب الأهلية التي ألمت بالجماعة التي يسعى لتزعمها، أو سواها، تحت شعار حمايتها من الآخر واسترداد حقوقها؟ أم أن المواطن قد انتصر، ولو لمرة، على نخبه السياسية ونصب الشرك لهم ولنفسه؟
الحدث الصادم، الذاكرة والهوية السياسية
في مجتمع لم يتمكن من معالجة ذيول الحرب الأهلية وتبعاتها في زمن السلم، يتحوّل الماضي إلى حاضر بدل أن يصبح تاريخًا. يحاول مستحضر هذا الماضي/الحاضر بناء هوية سياسية فردية وجماعية من خلال التنصيب الشخصي Self-Designation ، لتزعم جماعة معينة وفرض سيطرته على الآخرين. فبناء الهوية السياسية يمكن أن يرتكز على عوامل عدة منها الحدث الصادم الناجم عن النزاعات والحروب والذاكرة اللصيقة به.
يعرّف الطب النفسي الحدث الصادم بالحدث الذي يتعرض فيه الشخص أو الجماعة، أو عندما يشهد الشخص على تعرض شخص آخر أو جماعة قريبة منه تجربة الموت الحقيقي أو التهديد بالموت أو الإصابة الخطيرة أو العنف. هذا الحدث يمكن أن يكون من صنع الطبيعة أو من صنع الإنسان وقد يولّد ما هو متعارف عليه "بالصدمة النفسية الاجتماعية ". ومما لا شك فيه أن المجتمع اللبناني، بمعظم سياسييه من الجيل القديم ومواطنيه، ما زال يعاني من ارتدادات الصدمة النفسية الاجتماعية، وبنسب متفاوتة، والتي لم ينجح أحد في معالجتها حتى يومنا هذا. فهل يشكل الوزير جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، أي استثناء لهذه الحالة المرضية المستمرة من دون علاج؟ وهل تعرض لحدث صادم نتيجة الحرب كان قد هدد حياته بالموت؟ أم أنه ورث الصدمة النفسية، وبطريقة سردية، عن غيره من قياديي التيار الوطني الحر أو الجماعة التي يحاول تزعمها؟ إن لم يكن قد تعرض الوزير باسيل لحدث صادم نتيجة الحرب الأهلية، فهو إذا يتلاعب بمشاعر الخوف لدى الجماعة التي لم تخضع لمسار معالجة الصدمة النفسية الاجتماعية الناجمة عن هذه الحرب. كما ويمكن أن يكون الوزير باسيل، وتبعاً لمفهوم "المطابقة الاجتماعية العامة"، ضحية التأثيرات المجتمعية الممارسة عليه من قبل جماعته الساعية وراء حماية من خطر الأخرى. في كلا الحالتين هناك ضرورة للمعالجة من الصدمة النفسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون قد ألمت بالمجموعة أو الفرد الزعيم عليها ومن خلالها، والساعي لفرض زعامته على المجموعات الأخرى.
فهل كان للوزير جبران باسيل القدرة على التزعم لو لم تكن مجموعته مصابة بصدمة نفسية اجتماعية، غير معالجة، نتيجة الحرب والخوف من الآخر، تسعى وراء من يحميها؟ وهل كان لغيره من السياسيين القدرة على بناء هوية سياسية حديثة ومنفصلة عن مفاعيل الحرب، في بلد انتظامه السياسي والمجتمعي والاقتصادي مبني على الفساد والزبائنية السياسية، واستحالة إحقاق الحق دون اللجوء الى تلك النخب السياسية الخائبة؟
من هنا أهمية معالجة الماضي العنيف حتى ولو بعد وقت طويل من وقوع الأحداث الصادمة واللصيقة بالحرب. فمعظم سياسيو لبنان صنعوا زعاماتهم أو حافظوا عليها أو استحدثوها من خلال التلاعب بالصدمة النفسية الاجتماعية التي أصيبت بها مختلف الفئات اللبنانية في فترة الحرب الاهلية. في فترة ما بعد النزاع، وعند انتفاء المعالجة الحقيقية لأحداث الماضي تتحول الذاكرة الخاصة بالحرب لوسيلة تلاعب تضمن السيطرة على المجموعة من قبل "أمير الحرب" أو "الوريث" تحت شعار حماية الحقوق المسلوبة.
متلاعِب، متلاعَب به أم ضحية؟
تحدد بعض من مراجع علم الاجتماع والنفس الذاكرة بمعرفة من الماضي، وليس بالضرورة معرفة الماضي. فإن أي استحضار لأي حدث من الماضي العنيف، من خلال فترة الحرب وفي مجتمع منقسم لم يتمكن من إتمام مصالحات حقيقية بين مختلف فئاته السياسية والطائفية، قد يعتبر تلاعب بالذاكرة من الممكن أن يهدد السلم الأهلي الهش. والدليل يبقى حادثة البساتين-قبرشمون وما سبقها من استحضار لأحداث من الحرب الاهلية من قبل سياسي يبحث عن زعامة وتثبيت وجود.
إن التاريخ موضوعي وعلمي، أما الذاكرة فهي شخصية وغير موضوعية. لبنان لم يتمكن من كتابة تاريخه الحديث منذ فترة الحرب الأهلية لأسباب عدة أهمها عدم الإجماع حول مسببات النزاع والمسؤوليات المختلفة والواقعة على عاتق كل من شارك في الحرب من زعماء طوائف أو أصحاب الايديولوجيات المتضاربة. وبالتالي، فإن أي استحضار لأحداث عنيفة من الماضي يبقى في إطار الذاكرة الخاصة، الشخصية وغير الموضوعية، في حال لم يتم التعاطي مع مسببات ونتائج الحدث بطريقة موضوعية وعلمية. يكثر الكلام عن الحقيقة ولكن يغيب عن ذهن الكثيرين أن الحقيقة ليست قيمة نسبية، بل يجب أن تكون علمية ومثبتة ببراهين حسّية لكي تقطع الشك باليقين. وبالتالي، فإن أي كلام عن حقيقة ما حدث خلال الحرب، دون قرائن وتحقيق جنائي، يبقى في إطار سردي للوقائع ومحض شخصي خاص بجماعة معينة يقابله كلام مناقض خاص بجماعة أخرى. إن ما يزيد الأمر تعقيدًا في لبنان مرتبط بطبيعة النزاع خلال الحرب حيث أن الجماعة الواحدة انقسمت على نفسها وأصبح لكل منها حقيقة خاصة شخصية غير متقبلة للحقيقة السردية الخاصة بالجماعة الأخرى. وأصبح لها أكثر من زعيم يتنافس للإبقاء على مصالحه الشخصية بذريعة حماية أبناء جماعته.
الحقيقة والحذاء
يقول الكاتب والفكاهي الساخر مارك توين: "يمكن أن تسافر الكذبة لتدور حول منتصف العالم بينما الحقيقة ما برحت ترتدي حذائها". فكم نحن بعدين في لبنان عن تلك الحقيقة العلمية الخاصة بأحداث الماضي العنيفة؟ وكيف لنخب سياسية التباهي بحماية المجتمع من خطر العودة إلى الحرب وهي التي لم تتمكن من إطلاق مسار جدي للتحقيق في قضية قبرشمون بعد أسابيع من وقوع الجريمة؟ أم علينا انتظار الحقيقة الجنائية كي تنتهي من انتعال حذائها وعندها تكون معظم القبور قد حفرت؟
لا يا حبيبي... لا يا حفارين القبور... وليتنبه كل من أراد استحضار ذكريات الحرب بطريقة مجانية كم هو متلاعِب أو متلاعَب به. أما أن يكون الزعيم ضحية انتخبت دون الخضوع لعلاج نفسي من مجموعة مصدومة، فهذا ضرب من الهبل المجتمعي "وكَـمَـا تَـكُـونُـوا يُـولَّـى عَـلَـيْـكُـم."